كان الليل وشاحا اسود غطى بظلمته الديار والأشجار , يكاد السائر فيه لا يرى كفه بل لا يرى شيئا حوله إلا إذا تطلع إلى السماء , يرى النجوم كأنها لآلئ منثورة ترسل بريقها من بعيد ,مرت ساعات تلك الليلة بطيئة...بطيئة ,حتى ظهر الشفق مؤذنا بقدوم فجر جديد بعد ليلة طويلة مرت على رجل من أهل مكة , لم ينم فيها نوما هادئا بسبب ما رآه في نومه فقد رأى أهوالا أفزعته وقضت مضجعه فاستيقظ خائفا قلقا يبحث عن تفسير لما رآه في نومه........
كان هذا الرجل هو خالد بن سعيد, شعر بالخوف بعد استيقاظه من نومه كان يقشعر بدنه كلما تذكر تلك الرؤيا المخيفة فقد رأى أنه يقف أمام نار هائلة لا يرى لها نهاية , تمتد ألسنتها كأنها تريد أن تلتهم كل شيء , كان شكلها يدعو للخوف والفزع. وفجأة رأى أباه بالقرب من تلك النار المخيفة المرعبة , هل شعر بشيء من الأمن والطمأنينة حينما رآه ... ظنا منه أنه سيكون أداة أمن أو قارب نجاة ؟ لا! فقد كان والده سببا في مزيد من الخوف والهلع , فبدلا من أن يبدد خوفه أو يأخذه بعيدا إلى حيث يشعر بالأمان . فوجئ بوالده يدفعه إلى تلك النار الحامية ! من الذي ينقذه إذن؟!
إنه محمد بن عبد الله , رآه يمسك به ,كي لا يسقط في تلك النار... استيقظ خالد بن سعيد خائفا من نومه , قال لنفسه: أحلف بالله أن هذه الرؤيا حق, أراد أن يعرف تفسيرا لما رأى , أسرع إلى أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه , فقد كان ممن يعبرون الرؤى ... يفسرون الأحلام... فلما قص عليه ما رآه في نومه , قال له أبو بكر رضي الله عنه : لقد أراد الله بك خيرا , فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم بدأ يدعو الناس إلى دين الله تعالى يدعوهم إلى الإسلام وأنك ستتبعه ... ستدخل في الإسلام وسيكون سببا في نجاتك أما أبوك فسوف يقع فيها...
أسرع خالد بن سعيد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم , وقال له : يا محمد ... إلى أي شيء تدعو ؟ أجاب النبي صلى الله عليه وسلم : " أدعو إلى الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله , وترك ما أنت عليه من عبادة حجر لا يبصر ولا يسمع .. لا يضر و لا ينفع .. ولا يدري من عبده ممن لم يعبده".
كان خالد بن سعيد يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم , وهو على يقين من صدقه , فقد انشرح له قلبه , وانفتح له عقله , أدرك أنه رسول من عند الله تعالى , أرسله كي يخرج الناس من ظلمات الكفر إلى نور الهداية لذا فما كاد يسمع ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم , حتى قال أشهد أن لا إله إلا الله , وأشهد أنك رسول الله .
فرح النبي صلى الله عليه وسلم بإسلامه , فقد كان خالد بن سعيد رضي الله عنه خامس المسلمين فلم يسبقه إلى هذا الدين إلا علي بن أبي طالب وأبو بكر الصديق وزيد بن حارثة , وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم أجمعين. هكذا تحقق الجانب الأهم من رؤيا خالد التي رآها في نومه , فقد اعتنق الإسلام وأصبح من أتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي ذلك نجاة من نار جهنم . فأين الجزء الآخر من الرؤيا ؟ ... فقد رأى أباه يدفعه إلى تلك النار الهائلة التي رآها في نومه.
علم أبو خالد بإسلامه فاشتط غضبا واشتعل الغيظ نارا تتأجج في صدره ,شعر أن أمرا عظيما قد حدث , أراد أن يمثل ابنه أمامه بأقصى سرعة , بعث ببعض أبنائه للبحث عنه فانتشروا في مكة كأنهم فريق بحث جنائي , ظلوا يجوبون أرجاءها حتى عثروا عليه , وعادوا به إلى أبيهم مسرعين. ما كاد أبوه يراه حتى خاطبه بغلظة , وعاتبه بشدة ولم ينته الأمر عند حد الكلام بل انهال عليه ضربا بمقرعة كانت في يده , ظل يضربه بها حتى كسرها على رأسه , ثم أمره أن يترك هذا الدين ويرتد عن الإسلام . أصر خالد على موقفه رغم ما تعرض له من أبيه كيف يترك دين الحق , ويعود إلى الباطل والضلال , قال خالد لأبيه : إن محمدا صادق فيما يقول , لذا فقد اتبعت دينه الذي جاء به من عند الله سبحانه والله لا أترك ما جاء به حتى أموت !
كان كلامه صدمة لأبيه , فاشتد غضبه واندفعت قذائف كلماته سبا وشتما , ثم طرده من داره قائلا : لن أطعمك بعد اليوم , ولكن خالد لم يتأثر ، قال لأبيه في إيمان الواثق بالله تعالى : إن حرمتني الطعام ومنعتني إياه , فإن الله تعالى يرزقني ما أعيش به.
ظل خالد متمسكا بدينه لم يتزعزع إيمانه , رغم ما لاقاه من قسوة الحياة , ولكنه كان يحتسب ذلك في سبيل الله ؛ اضطر إلى مغادرة وطنه ، هاجر إلى أرض الحبشة في الهجرة الثانية فقد كانت الهجرة الأولى والثانية إلى أرض الحبشة , قبل هجرة المسلمين إلى مكة , لم يكن وحيدا في هجرته , بل كانت معه زوجته ( همينة ) رزقهما الله هناك ابنتهما (أم خالد ).
وبعد بضع عشر سنة قضاها خالد مع خالد مع إخوانه المسلمين في أرض الحبشة , غادروها متجهين إلى أرض المدينة المنورة , التي كان قد هاجر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه , فأقام هناك للإسلام دولة , وبدأ رحلة الجهاد في سبيل الله, التقوا برسول الله صلى الله عليه في خيبر , بعد أن نصره الله على أعداء الله اليهود , ثم عادوا معه إلى المدينة ... بدأ خالد رحلة الجهاد بعد أن فاتته بضع غزوات قبل وصوله من أرض الحبشة , فقد فاتته غزوتا بدر وأحد وما بعدهما حتى غزوة خيبر خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض غزواته, ثم بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم عاملا على صدقات اليمن .
وبعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم مضى خالد بن سعيد على درب الجهاد , يقاتل الكفار والمشركين , حتى خرج في غزوة ( مرج الصفر ) .. قاتل فيها قتال الأبطال حتى نال خاتمة السعداء .. خاتمة الشهداء , الذين هم أحياء عند ربهم يرزقون أرواحهم في حواصل طير خضر في الجنة , فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن أرواح شهداء المسلمين في حواصل طير خضر , تغدو إلى رياض الجنة , ثم يكون مأواها إلى قناديل معلقة بالعرش , فيقول لهم الرب تبارك وتعالى : أتعلمون كرامة أفضل من كرامة أكرمتموها ؟ فيقولون : لا إله إلا أنت , إنا وددنا أنك أعددت أرواحنا في أجسادنا حتى نقاتل مرة أخرى فنقتل في سبيلك ".