كفاح شعب مصر العظيم

الكفاح المسلح وسياسة الاحتلال.. رفض عرابي ورفاقه الإنذار الذي وجهة الأميرال سيمور بوحي من حكومته لأن الرضوخ لهذا الإنذار كان معناه تسليم الميناء من غير مقاومة ، فنية إنجلترا كانت مبيتة علي احتلال مصر ، وان أخذت تنتحل شئ المعاذير ، وتخلق أوهي الأسباب لتبرير هذا الاحتلال .
لقد آثر الحكام المصريون الخلص أن يخوضوا معركة القتال علي أن يسلموا البلاد غنيمة باردة ، وليسجلوا علي هؤلاء الغاصبين الخزي والعار والتمكين للاستعمار . وأراد غيرهم من المتمصرين أن يقبلوا الإنذار وشروطه حقنا للدماء ، ولكن كيف تقف أمه تجري في شرايينها دماء العزة والكرامة ،كيف تقف ساكنة أمام اعتداء أجنبي !!
أنه حتم عليها أن تدافع بالنفس والنفيس جهد طاقتها .
وهذا ما فعله عرابي ممثل تلك الأمة العريقة .
أن الأسطول الإنجليزي الرابض في الموانئ المصرية وبخاصة الإسكندرية كان أسطولاً ضخماً مكوناً من ثماني مدرعات كبيرة وخمس سفن مدفعية وسفينة للطوربيد وأخري كشافة ،ومجهزاً بأحدث المدافع وأقواها ،وكانت الطوابي المصرية غير مجهزة إلا بمدفعين حديثين ، أما المدافع الأخرى فمن طراز قديم ،ومع عدم التكافؤ بين الأسطول المهاجم المتحرك ، والحصون القائمة الثابتة ، فقد دافع الضباط المصريون دفاع الأبطال غير حافلين بما ينتظرهم من موت ،فهذه هي روجهم المعنوية العالية التي يصفها مؤرخ عاصر هذه الأحداث ، مؤرخ محايد فهو سويسري الجنسية .. قال :-
" ما أبرع هذا المنظر ، منظر الرماة المصريين الذين كانوا قائمين علي مدافعهم وهي مكشوفة في العراء ،وكأنما هم استعراض حربي ،لا يرهبون الموت الذي يكتنفهم ،إذا لم يكن لهم دوارع واقية ولا متاريس وكانت معظم الحصون بلا ساتر .. ومع ذلك فهؤلاء الشجعان من أبناء النيل كنا نلمحهم وسط الدخان الكثيف كأنهم أرواح الأبطال الذين سقطوا في حومة الوغى ثم بعثوا ليكافحوا من جديد ويستهدفوا لنيران مدافعه ،وكان الأئمة والعلماء يزورون الحصون ويشجعون المقاومة ، وقام الجميع بواجبهم من جند ورجال ونساء وصغار وكبار ولم يكن ثمة أوسمة ولا مكافآت تستحث أولئك الفلاحين علي أداء واجبهم بل أن عاطفة الوطنية والثورة علي الفظائع التي استهدفوا لها كانت تستثير الحماسة في صدورهم ، وهم أولئك الشجعان المجهولون الذين لم يفكر أحد في آلامهم " .
ولكن ماذا تجدي الأرواح القوية والعزمات الماضية أمام الأجهزة الناسفة والمدافع الضخمة المدوية ؟ ..
لقد سقطت الإسكندرية فتحصن عرابي في كفر الدوار علي ما هو معروف في كتب التاريخ وسلم الخديوي توفيق نفسه ومن علي شاكلته إلي رجال البحرية الإنجليزية ،وأضحي في قبضة أيديهم يسيرونه وأتباعه كما شاءوا وليكون عيناً لهم علي المصريين أهل البلاد الشرعيين ،بل ساعدا قوياً لتوهين الجبهة الداخلية وإيقاع الفرقة بين المصريين ،وإظهار عرابي بمظهر المتمرد أو الخارج علي القانون .
ثم مضت سلسلة الخيانات في طريقها المرسوم حتى تم للإنجليز احتلال مصر ، ومما لا شك فيه أن الكتلة الشعبية كما هي حالها دائماً هي التي وقع عليها عبء الدفاع عن مصر عند مهاجمتها ، وأنها ضحت بأرواح أبنائها وبقوتها وبأموالها وبدوابها وبكل ما تملك دفاعاً عن القضية الكبرى ،قضية الحرية .
وأن هذه الجمهرة الشعبية ساندت الجيش في كفاحه ،وبذلت الكثير في سبيل دفع العدوان الأجنبي الغادر .
وأنها وقفت وحدها وقد أصطلح عليها أعوان الاستعمار وقوي البغي والعدوان وتحجر الضمير العالمي .
فمصر دولة شرقية ، ومصر دولة إسلامية .
فكيف تهب دولة من دول العالم الغربي لتناصرها ؟!!.
وإنجلترا في ذلك العصر كانت أقوي دول العالم ،بل كانت لها الصدارة في توجيه السياسة العالمية .
فكيف تناوئها دولة من الدول وتقف منها موقف المتحدي ؟!!.
إن إنجلترا كانت سيدة البحار في ذلك الوقت وهي التي لا تغيب الشمس عن أملاكها ... بريطانيا العظمي اغتصبت أرض مصر ، واحتلتها ليس له سند من قانون دولي .
أنها انتهكت حرمة القانون والعدل ،وجيشت أساطليها لتجعل مصر بقرة حلوبا للاستعمار .
ومع قوتها العاتية فلم تستسلم لهذه الدولة الصغرى بل حاربتها وأوقفت سير الحملة في الميدان الغربي.
ولولا انتهاك الإنجليز حرمة القتال ،والتعدي علي حيدتها ،وثقة المصريين في تأكيد دليسبس بأن القتال لن تمس ،ولن يتحكم فيها قوات أجنبية ،أو أسطول حربي معاد .
لولا كل أولئك ، لا نقول لتغير وجهة التاريخ ، وأوقف الزحف الإنجليزي بل لأنزل المصريون بالقوات المغيرة خسائر فادحة ،وضروا بالغاً ،ولقنوهم درساً قاسياً بما أقاموا من استحكامات تعرقل خطتهم كما فعلوا بهم في كفر الدوار .
وأنتهي الكفاح المسلح بهزيمة الجيش المصري في واقعة " التل الكبير " واحتلال العاصمة في 14 سبتمبر سنة 1882 .م ، وتسليم الحامية المصرية ،واعتقال ما يربو علي ثلاثين ألفاً من المصريين ، والقبض علي عرابي وأعوانه والموالين له ودخول الخديوي توفيق الخائن العاصمة المصرية دخول الظافر في صحبة قائد الحملة الإنجليزية الجنرال ولسلي والدوق أف كنت والسر أدوار مالت قنصل إنجلترا العام .
وظهر الخونة علي حقيقتهم فأخذوا يقدمون الهدايا الثمينة لكبار قواد الإنجليز ،ويقيمون لهم الحفلات الرسمية الساهرة مما يندي له جبين الوطنية المخلصة .
والحق أن هؤلاء الخونة لم يؤمنوا إلا بمصالحهم الذاتية ،ولم يعرفوا إلا سبيل التملق والخضوع ،فقد كانوا الفئة الحاكمة من قبل ، وكانوا الإقطاعيين الذين يحتقرون الجمهرة الشعبية ، وكانت لهم مصالحهم المتعددة التي يحرصون علي بقائها ولو تنكروا لوطنهم وضحوا بمستقبل بلادهم .
إن عقولهم مسممة ، وقلوبهم مريضة ن ونفوسهم مستخذية .
وهم لا يعتبرون عنوانا للشعب ،ولا يحسبون منه وأن عدوا عليه .
هؤلاء الذين عرف الخديوي والإنجليز مكان الضعف فيهم فأخذوا يغدقون عليهم المكافآت السخية ،والجوائز السنية ، والأوسمة الرفيعة ،ويولونهم المناصب الكبيرة ،ويضعونهم موضع الصدارة جزاء وفاقاً لما قدموه من خيانة ،ووصموا به جبين الأمة المكافحة .
وكان من الطبيعي بعد أن استعاد الخديوي سلطته في أوسع نطاق وبصورة أقوي مما كانت أن يرحل جيش الاحتلال تمشياً مع منطق الإنجليز الذين نادوا بأن مهمتهم في مصر تنحصر في القضاء علي عناصر الشغب والتمكين للخديوي صاحب السلطة الشرعية في البلاد علي حد زعمهم ،ولكن السنوات المتعاقبة أظهرت دخائلهم وقطعت بأن هدفهم الأصيل هو احتلال مصر احتلالاً مؤبداً ،ولعلهم – كما أثبتت الحوادث فيما بعد – كانوا يرمون إلي ما هو أبعد وأعمق ، إلي بسط سلطانهم ونفوذهم علي السودان والأقطار الأفريقية البكر ن وتحطيم النفوذ الغربي وبخاصة الفرنسي .
فبمجرد احتلالهم البلاد ألغوا الجيش المصري المكافح وأعفوا ضباطه من الخدمة ن واستحدثوا منصب سردار الجيش أو رئيس أركان حربه وأسندوه إلي إنجليزي ، وجعلوا مناصب الجيش الأخرى الكبيرة في يد إنجليز أو موالين للإنجليز ،وكونوا جيشاً مصرياً صنعوه بأيدهم ليكون طوع إشارتهم ،ورهن أمرهم .
ثم ألغوا مجلس النواب حتى لا تكون سلطة إلي جانب سلطتهم ،وجعلوا الأمور وتسيير دفة الحكم في البلاد بيد المعتمد البريطاني فهو الحاكم المطلق ، بل هو الحاكم الفعلي لا سلطان إلي جانب سلطانه ولا رأي يخالف رأيه الذي يبديه .
واستغلوا الأحداث ،وأضعاف الجيش المصري ،وارتباك ميزانية الدولة في توطيد أقدامهم في السودان ، والسيطرة عليه سيطرة تكاد تامة .
وتقوم السياسة الإنجليزية بعد الاحتلال علي تقرير قدمه اللورد دفرين الذي أوفدته الحكومة البريطانية بعد أيام من الاحتلال لدراسة الحال في مصر وموافاتها بآرائه في السياسة التي تنتجها في مصر ، وهذا التقرير ذو أثر بالغ في مستقبل مصر السياسي إذا رسم للحكومة البريطانية الخطوط الرئيسية للنظام الذي ينبغي أن يقام ،مباشر حتى لا تثير عليها ثائرة المصريين من ناحية والدول الكبرى من ناحية أخرى وألا يتجاوز عدد الجيش المصري ستة آلاف علي أن يتولى قيادته إنجليزي يعاونه بعض الضباط الإنجليز يعينون قوات للآليات .
وأن يكون البوليس تحت أشرف مفتش عام ومساعد له من الإنجليز يعاونه بعض المفتشين البريطانيين .
وقال :- إن مصر غير للحكم النيابي السابق فيكتفي بقيام مجلس شوري القوانين والجمعية العمومية ومجالس المديريات .
وحبذ إدخال العنصر الأوربي في المحاكم الأهلية ،وبإشارته عين Sir Benson Maxwellنائباً عاماً في 24 مارس سنة 1883 .م بدلاً من إسماعيل يسري " باشا " المصري .
ورأي إسناد وظائف مفتشي عموم من الإنجليز في كل المرافق وفي ختام تقريره كشف القناع عن أهداف الاحتلال فرأي أنه إزاء المصاعب المالية والاقتصادية التي تكتنف مصر وعدم استطاعه المصريين مواجهتها يشير بأن يقوم الإنجليز بإرشاد ومساعدة رجال الحكومة الوطنيين .
ومن ثم فلا يجوز أن يتم الجلاء عن مصر قبل إتمام إصلاح شئونها ، والتغلب علي المصاعب التي تقوم في طريقها .
وتمشياً مع سياسة هذا التقرير التي لقيت موافقة وارتياحاً من جانب وزارة الخارجية البريطانية اتجه ريح الاحتلال ، وعين السير أفلن بارنج Sir Evelyn Baring " وهو اللورد كرومر " في 30 مايو سنة 1883 قنصلاً عاماً ، أو حاكماً عاماً لا راد لمشيئته ولا ظل إلا ظله ، أما الخديوي وأما الوزارة وأما الحكام المصريون فمنه يتلقون الوحي ، وبروحه يعملون .
وقد ظهرت هذه السياسة واضحة جلية في البرقية التي أرسلها اللورد جرانفيل Lord Granvilleوزير الخارجية البريطانية في 4 يناير سنة 1884 إلي السير أفلن بارنج بمناسبة امتناع شريف باشا رئيس الوزارة المصرية عن العمل علي إخلاء السودان ،حيث قال :-
" ذكرتم في برقيتكم المؤرخة في 22 من الشهر الماضي أنه في حالة إصرار حكومة صاحبة الجلالة الملكة علي طلب إخلاء السودان لا تقبل حكومة الخديوي حسب رأيكم تنفيذ هذه السياسة ،ولا أري حاجة إلي أوضح لكم أنه من الواجب ما دام الاحتلال البريطاني المؤقت قائماً في مصر أن تتأكد حكومة جلالة الملكة من ضرورة اتباع النصائح التي تري إسداءها للخديوي في المسائل الهامة التي تستهدف فيها للخطر إدارة مصر وسلامتها ،ويجب علي الوزراء والمديرين المصريين أن يكونوا علي بينة من أن المسئولية الملقاة الآن علي عاتق الحكومة البريطانية تضطرها إلي أن تصر علي اتباع السياسة التي تراها ، ومن الضروري أن يتخلى عن منصبة كل وزير أو مدير لا يسير وفقاً لهذه السياسة وأن حكومة جلالة الملكة لواثقة من انه إذا اقتضت الحال استبدال أحد الوزراء ، فهناك من المصريين سواء من شغلوا منصب الوزارة ، أو شغلوا مناصب أقل درجة ، من هم علي استعداد لتنفيذ الأوامر التي قد يصدرها إليهم الخديوي بناء علي نصائح حكومة جلالة الملكة " .
والعمل الذي ندركه من هذه السياسة هو العمل علي إذلال المصريين والتحكم فيهم ، وتضييق الخناق عليهم حتى لا ينطلقوا الانطلاق المرجو لشعب متحضر أصيل ، وحتى يقبعوا في حدودهم فلا يتعدوها ، بل العمل علي استغلالهم سياسياً واقتصادياً ،وفرضهم علي الحكومات المصرية الوضع الذي يرتضونه ، ويوافق سياستهم الاستعمارية .
ليس هذا فحسب بل أنهم عملوا علي إثقال كاهل الخزانة المصرية ، وتحميلها أعباء أخرى غير التي ترزح تحتها ففرضوا عليها تعويضات لما لحق الأجانب من خسائر يعلم الله أن الاحتلال هو المسئول الأول والأخير عنها ، وقد بلغت أربعة ملايين وربع مليون جنية ، هذا إلي جانب نفقات الاحتلال وتقدر بمائتي ألف جنية سنوياً ، والمرتبات الضخمة التي تمنح لكبار الموظفين الإنجليز .
وأيا ما كان المر فقد أنتهي الدفاع عن أرض الوطن ومقدساته هذه النهاية المذلة ووضع الإنجليز أصابعهم في كل شئ ، وتغلغلوا في كل مرفق من مرافق الدولة ، وتسللوا إلي كل منفذ من منافذها حتي تخضع البلاد لهم خضوعاً تاماً ، ولكن هل نجحوا في سياستهم هذه ؟؟!!
هذا ما سنراه في حلقتنا القادمة بمشيئة الله تعالي عود علي بدء وفي نهاية حلقة هذا اليوم من لمحات كفاح شعب مصر العظيم تلاحظ لنا " بأن الثورة العرابية لم تحقق أهدافها واكتفت بأن سجلت مولدها".