بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}
(102) سورة آل عمران
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (1) سورة النساء .
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (70- 71) سورة الأحزاب
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله ، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار ( ).
إن الله - جل وعلا - أنزل إلينا كتاباً فيه خبر ما قبلنا، وحكم ما بيننا، ونبأ ما بعدنا، هو الفصل ليس بالهزل، مَنْ تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، هو الذي لا تزيغ به الأهواء ، ولا تلتبس به الألسن، ولا يشبع منه العلماء، ولا تنقضي عجائبه، من قال به صدق، ومن عمل به أُجِرَ، ومن حكم به عدل ، ومن دعا إليه هُدِيَ إلى صراط مستقيم ( ).
أنزل الله هذا القرآن ليخرج الناس به من الظلمات إلى النور، ومن الضلالة إلى الهدى، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، قال تعالى : {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِين * يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } (15-16) سورة المائدة
لقد تمسك السلف الصالح بالقرآن الكريم ، وحولوا تلك الآيات إلى منهج حياة متكامل، بأوامره يأتمرون ، وبنواهيه ينتهون ، بل حولوها إلى رجال تتحرك في واقع البشر؛ فكان القرآن مصدر عزهم وشرفهم وسيادتهم ، ومن ثَمَّ جعلهم القرآن قادة وسادة للأمم بعد أن كانوا رعاة للإبل والغنم ، ولكن شتان ما بين الخلف الطالح والسلف الصالح ، فإننا نشهد هجراً للقرآن على جميع المستويات بشتى الأشكال: هجراً للتلاوة، والاستماع ، والتدبر، والعمل، والتحاكم ، والتداوي والاستشفاء بالقرآن، حتى صدق على الكثير منا قوله تعالى : {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} (30) سورة الفرقان
فالذي يرفع الشكوى هو الرسول الأمين والذي يشكى إليه هو الله رب العالمين ، ويشكو قومه الذين هجروا القرآن، وأعرضوا عن ذكر الواحد الديان، فإلى الله المشتكى، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
لقد هجر القرآن تلاوة .. وأعرض الكثير عن مذاكرته وحفظه، ومجالس تدارسه بالرغم من حرصهم الشديد على مطالعة الصحف والمجلات ليتابعوا بلهف وشوق أخبار من لا خلاق لهم من الساقطين والساقطات !! .
لقد هجر القرآن استماعاً .. بل ارتبط استماع القرآن في أذهان كثير من المسلمين بالأحزان والسرادقات التي تقام للمآتم !! بل أقبل الناس على سماع اللهو والغناء والمزمار وهجروا قرآن العزيز الغفار !!
لقد هجر القرآن تدبراً .. القرآن الذي لو أنزله الله على الجبال الرواسي الشامخات لتصدعت من خشية الله ، إذا به يقرأ ، وآيات الوعد والوعيد تسمع، ولكن قلوب قاسية، وأبدان جامدة، وعيون متحجرة ، فلا قلب يخشع، ولا بدن يخضع ، ولا عين تدمع !!
وأحاول في هذا الكتاب دراسة موضوع تدبر القرآن وإلقاء الضوء عليه من خلال النقاط التالية :
الفصل الأول : تدبر القرآن
( معناه - حكمه - فوائده ) .
الفصل الثاني : تدبر القرآن الكريم لماذا وكيف ؟
الفصل الثالث : التدبر في القرآن والسنة وسير السلف الصالح .
وأسأل الله أن ينفع به وأن يجعل القرآن الكريم ربيع قلوبنا وجلاء أحزاننا وذهاب همنا وغمنا وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
الفصل الأول
تدبــر القــرآن الكريم
فيه ثلاثة مباحث:
أولاً : معنى التدبر.
ثانياً : حكم تدبر القرآن .
ثالثاً : فوائد تدبر القرآن وثمراته .
أولاً : معنى التدبر
التدبر لغةً:
كلمة التدبر في اللغة : مصدر فعله الماضي ( تَدَبَّر ) وهو فعل مزيد اشتق من الفعل الماضي ( دَبَر ) ، ومضارعه ( يَدْبُر ) ، والمصدر ( دَبْراً ، ودُبُوراً )( ).
( الدُّبر ) و ( الدَّبُر ) مخففاً ومثقلاً .
و( التدبير ) في الأمر: النظر إلى ما تؤول إليه عاقبته.( )
و( تدبر الأمر ): رأى في عاقبته ما لم ير في صدره، {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ } (68) سورة المؤمنون، أي: ألم يتفهموا ما خوطبوا به في القرآن( ).
تدبر القرآن اصطلاحاً:
قال العلامة عبدالرحمن بن ناصر السعدي - رحمه الله -:
(وهو - أي تدبر القرآن - : التأمل في معانيه ، وتحديق الفكر فيه ، وفي مبادئه وعواقبه، ولوازم ذلك) ( ).
ثانيا ً : حكم التدبر
إن تدبر القرآن الكريم من أجل الطاعات ، وأفضل القربات ، وأسمى العبادات؛ لأنه من خلاله يفهم الإنسان مراد الله - سبحانه وتعالى - ؛ ولهذا قال تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} (29) سورة ص .
قال العلامة السعدي - رحمه الله - :
( أي هذه الحكمة من إنزاله ؛ ليتدبر الناس آياته فيستخرجوا علمها ، ويتأملوا أسرارها وحكمها ... وهذا يدل على الحث على تدبر القرآن، وأنه من أفضل الأعمال، وأن القراءة المشتملة على التدبر أفضل من سرعة القراءة التي لا تحصل هذا المقصود)( ).
قال الإمام القرطبي - رحمه الله -:
( وفي هذا دليل على وجوب معرفة معاني القرآن ، ودليل على أن الترتيل أفضل من الهذ( ) ، إذ لا يصح التدبر مع الهذ ، قال الحسن : تدبر آيات الله اتباعها)( ) .
قال الإمام الزركشي - رحمه الله -: ( كراهة قراءة القرآن بلا تدبر).
تكره قراءة القرآن بلا تدبر، وعليه حُمِل حديث عبدالله بن عمرو: "لا يفقه مَنْ قرأ القرآن في أقل من ثلاث " ( ) .
وقول ابن مسعود لمن أخبره أنه يقوم بالقرآن في ليلة : أهذاً كهذ الشعر( ). وكذلك قوله في صفة الخوارج: " يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم ولا حناجرهم" ( ) ذمهم بإحكام لفظه ، وترك التفهم لمعانيه )( ).
قارئ القرآن الجاهل بمعانيه مأجور
أداوم على قراءة القرآن لكنني لا أفهم معانيه .. فهل أثاب من الله على ذلك؟
قال الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين - رحمه الله - :
( القرآن الكريم مبارك كما قال الله – تعالى - : {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} (29) سورة ص. فالإنسان مأجور على قراءته سواءً أفهم معناه أم لم يفهم … لكن لا ينبغي للمؤمن أن يقرأ قرآناً مكلفاً بالعمل به دون أن يفهم معناه ، فالإنسان لو أراد أن يتعلم الطب مثلاً ودرس كتب الطب فإنه لا يمكن أن يستفيد منها حتى يفهم معناها وتُشرح له، بل هو يحرص كل الحرص على أن يفهم معناها من أجل أن يطبقها ، فما بالك بكتاب الله - سبحانه وتعالى - الذي هو شفاء لما في الصدور وموعظة للناس أن يقرأه الإنسان بدون تدبر وبدون فهم لمعناه … ولهذا كان الصحابة - رضوان الله عليهم - لا يتجاوزون عشر آيات حتى يتعلموها وما فيها من العلم والعمل، فالإنسان مثاب ومأجور على قراءة القرآن سواء أفهم معناه أم لم يفهم، ولكن ينبغي له أن يحرص كل الحرص على فهم معناه ، وأن يتلقى هذا المعنى من العلماء الموثوقين، مثل : تفسير ابن جرير، وتفسير ابن كثير ، وغيرهما... )( ) .
ثالثاً : فوائد تدبر القرآن وثمراته
قال الإمام ابن القيم - رحمه الله - في فوائد تدبر القرآن الكريم:
( فلا تزال معانيه تنهض العبد إلى ربه بالوعد الجميل ، وتحذره وتخوفه بوعيده من العذاب الوبيل ، وتحثه على التخفف من عناء اليوم الثقيل، وتهديه في ظلم الآراء والمذاهب إلى سواء السبيل، وتصده عن اقتحام طرق البدع والأضاليل، وتبعثه على الازدياد من النعم بشكر ربه الجليل، وتبصره بحدود الحلال والحرام وتوقفه عليها لئلا يتعداها فيقع في العناء الطويل، وتثبت قلبه عن الزيغ والميل عن الحق والتحويل، وتسهل عليه الأمور الصعاب، والعقبات الشاقة غاية التسهيل ، وتنادي عليه كلما فترت عزماته، وونى في سيره: تقدم الركب وفاتك الدليل. فاللحاق اللحاق ، والرحيل الرحيل ، وتحدو به، وتسير أمامه سير الدليل. وكلما خرج عليه كمين من كمائن العدو أو قاطع من قطاع الطريق نادته: الحذر الحذر، فاعتصم بالله، واستعن به، وقل حسبي الله ونعم الوكيل . وفي تأمل القرآن وتدبره، وتفهمه أضعاف ما ذكرنا من الحكم والفوائد).( )
قال العلامة السعدي - رحمه الله - : ( فإن في تدبر القرآن :
1- مفتاحاً للعلوم والمعارف، وبه يستنتج كل خير، وتستخرج منه جميع العلوم.
2 - وبه يزداد الإيمان في القلب ، وترسخ شجرته .
3 - فإنه يُعَرِّفُ بالرب المعبود ، وما له من صفات الكمال ، وما يتنزه عنه من سمات النقص .
4 - وبه يُعْرَفُ الطريق الموصلة إليه ، وصفة أهلها ، وما لهم عند القدوم عليه.
5 - وبه يُعْرَفُ العدو الذي هو العدو على الحقيقة ، والطريق الموصلة إلى العذاب ، وصفة أهلها ، وما لهم عند وجود أسباب العقاب .
6 - وكلما ازداد العبد تأملاً في القرآن ازداد علماً ، وعملاً،
وبصيرة .
ومن فوائد التدبر لكتاب الله: أنه يصل به العبد إلى درجة اليقين، والعلم بأنه كلام الله، لأنه يراه يصدق بعضه بعضاً، ويوافق بعضه بعضاً، فترى الحكم والقصة والأخبار تعاد في القرآن في عدة مواضع، كلها متوافقة متصادقة، لا ينقض بعضها بعضاً؛ وبذلك يُعْلًمُ كمال القرآن، وأنه من عند من أحاط علمه بجميع الأمور. فذلك قولـه تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا} (82) سورة النساء. أي: فلما كان من عند الله؛ لم يكن فيه اختلاف أصلاً) ( ).
قال سيد قطب – رحمه الله -: (تدبر القرآن يزيل الغشاوة، ويفتح النوافذ، ويسكب النور، ويحرك المشاعر، ويستجيش القلوب ، ويخلص الضمير، وينشئ حياة للروح تنبض بها وتشرق وتستنير)( ) .
( ومن فوائد تدبر القرآن :
• معرفة الرب - عز وجل - ومعرفة عظيم سلطانه وقدرته والتلذذ بالنظر إليه يوم القيامة.
• تحقيق العبودية لله - تعالى -.
• فيه تربية للعقول .
• فيه شفاء لما في الصدور .
• الأجر الكثير والربح الوفير .
• الهداية والتوفيق والنور ، والراحة والطمأنينة .
• ذكر الله للمتدبر ، وغشيان الملائكة ، ونزول السكينة والرحمة .
• حصن من الشيطان ) ( ).
فهذه بعض فوائد تدبر القرآن الكريم ، وثمراته الزكية ، فأين أنت منها؟ (فسبحان الله ! ماذا حُرم المعرضون عن نصوص الوحي ، واقتباس العلم من مشكاته من كنوز الذخائر ؟! وماذا فاتهم من حياة القلوب واستنارة البصائر ؟! قنعوا بأقوال استنبطتها معاول الآراء فِكْراً ، وتقطعوا أمرهم بينهم لأجلها زُبَراً ، وأوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً ؛ فاتخذوا لأجل ذلك القرآن مهجوراً).( )
الفصل الثاني
تدبر القرآن( لماذا وكيف)
وفيه مبحثان:
أولاً : لماذا لا نتدبر القرآن الكريم؟
ثانياً : كيف نتدبر القرآن الكريم ؟
أولاً : لماذا لا نتدبر القرآن الكريم؟
قل مَنْ يقرأ القرآن ، وقل مِنْ هؤلاء القارئين مَنْ يتدبر القرآن ، ويقف مع وعده ووعيده؛ حتى تتحقق له الدعوة إلى الطاعة، والزجر عن المعصية ، فإذ بالقرآن - الذي لو أنزله الله على الجبال الرواسي الشامخات لتصدعت من خشية الله – إذا به يٌقرأ، وآيات الوعد والوعيد تسمع، ولكن قلوب قاسية، وأبدان جامدة، وأعين متحجرة، فلا قلب يخشع ، ولا بدن يخضع، ولا عين تدمع.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - :
( مَنْ لم يقرأ القرآن فقد هجره ، ومَنْ قرأ القرآن ولم يتدبره فقد هجره ، ومَنْ تدبر القرآن ولم يعمل به فقد هجره ) ( ) .
وترجع ( ظاهرة ) هجر تدبر القرآن إلى أسباب كثيرة منها :
1ـ الذنوب والمعاصي 2 ـ ترك الدعاء 3ـ الجهل باللغة العربية
4ـ التخلي عن موانع الفهم 5ـ هجر كتب التفسير
وإليك بيان هذه الأسباب بشيء من التفصيل:
أولاً : الذنوب والمعاصي
من عقوبات الذنوب والمعاصي أنها تصرف القلب عن صحته واستقامته إلى مرضه وانحرافه ، فلا يزال مريضاً معلولاً لا ينتفع بالأغذية التي بها حياته وصلاحه، فإن تأثير الذنوب في القلوب كتأثير الأمراض في الأبدان ، قال تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (14) سورة المطففين. قال العلماء : هو الذنب بعد الذنب حتى يطبع على قلب صاحبها فيكون من الغافلين ، ويحرم من العلم ؛ ولذلك قال الله تعالى : {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (24) سورة محمد. فينبغي لمن أراد أن يتدبر القرآن أن يبتعد عن الذنوب والمعاصي ( وبخاصة التي تتعلق بأدوات ووسائل التدبر: القلب والسمع واللسان والبصر. فاستخدام هذه الأدوات في الحرام يعرضها لعدم الانتفاع بها في الحق قال تعالى : { وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا } (25) سورة الأنعام. وقال تعالى : {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ } (5) سورة فصلت.
فذكر الله غطاء القلب وهو الأكنة ، وغطاء الأذن وهو الوقر ، وغطاء العين وهو الحجاب، فالحجاب يمنع من رؤية الحق ، والأكنة تمنعه من فهمه ، والوقر يمنعه من
سماعه )( ) .
لما جلس الإمام الشافعي - رحمه الله - بين يدي الإمام مالك - رحمه الله - ، وقرأ عليه ، أعجبه ما رأى من وفور فطنته ، وتوقد ذكائه ، وكمال فهمه ؛ فقال له: (إن الله - تعالى - قد ألقى على قلبك نوراً ، فلا تطفئه بظلمة المعصية ) .
ومما ورد عن الشافعي – رحمه الله – قوله :
شكوت إلى وكيع سوء حفظي
فأرشدني إلى ترك المعاصي
وأخبرني بأن العلم نور
ونور الله لا يؤتاه عاص
ومما سبق يتضح أن الذنوب والمعاصي من أعظم الأسباب التي تحول بين العبد وتدبر القرآن الكريم ( ).
ثانياً : ترك الدعاء
إن الدعاء سلاح المؤمن في جميع أموره ، ولذلك فإن سير الأنبياء والصالحين مليئة بالأدعية الصالحة المستجابة ، وكان السلف الصالح إذا استعصى عليهم فهم آية من كتاب الله وتدبرها ، لجأوا إلى الله بالتضرع والدعاء مع تخير الأوقات المناسبة للإجابة، وسنذكر بعضاً من سيرهم في ذلك :
يذكر الحافظ ابن كثير - رحمه الله - في سياق هجرة عمر بن الخطاب مع عياش بن ربيعة وهشام بن العاص - رضي الله عنهم - (ولقد حبس الكفار هشاماً عن الهجرة، واستطاع أبوجهل أن يرد عياشاً إلى مكة بعد حيلة ماكرة وخطة غادرة ... وقد كان شائعاً بين المسلمين أن الله لا يقبل ممن افتتن توبة ، وكانوا يقولون ذلك لأنفسهم حتى قدم رسول الله المدينة ، وأنزل الله {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} (53ـ55) سورة الزمر. قال عمر: وكتبتها وبعثت بها إلى هشام بن العاص .قال هشام : فلما أتتني جعلت أقرؤها بذي طوى أصعد بها وأصوب، ولا أفهمها؛ حتى قلت: اللهم فهمنيها؛ فألقى الله في قلبي أنها إنما أنزلت فينا وفيما كنا نقول في أنفسنا ، ويقال فينا ، قال: فرجعت إلى بعيري فجلست عليه فلحقت برسول الله بالمدينة ) ( ).
وكان شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - يقول في دعائه دائماً: ( اللهم يا معلم آدم وإبراهيم علمني ، ويا مفهم سليمان فهمني ) فيجد الفتح في ذلك( ). فالزم - أخي الحبيب - الدعاء دائماً ، وسل الله من فضله أن يرزقك فهم كتابه ، وتدبر معانيه، وقل : ( اللهم إني عبدك ابن عبدك ، ابن أمتك ، ماضٍ فيَّ حكمك ، عدلٌ فيَّ قضاؤك ، أسألك بكل اسم هو لك ، سميت به نفسك ، أو أنزلته في كتابك ، أو علمته أحداً من خلقك ، أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور بصري، وجلاء حزني، وذهاب همي )( ).
ثالثاً : الجهل باللغة العربية
إن الله - تعالى - أنزل القرآن الكريم بلغة العرب قال تعالى :
{وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ} (103) سورة النحل، وقال تعالى : {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ} (192ـ195) سورة الشعراء.
قال الإمام ابن كثير - رحمه الله - :
( وذلك لأن لغة العرب أفصح اللغات ، وأبينها ، وأوسعها ، وأكثرها تأدية للمعاني التي تقوم بالنفوس ؛ فلهذا أنزل أشرف الكتب بأشرف اللغات )( ) .
وبَيَّنَ اللهُ - تعالى - الحكمة من إنزاله بلغة العرب فقال : {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (2) سورة يوسف. {قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} (28) سورة الزمر. {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (3) سورة فصلت.
وإذا كان العبد لا يعرف لغة العرب ولا أساليب كلامهم ؛ فأنى له أن يفهم مقصود ربه - سبحانه وتعالى - أو يتدبر آيات القرآن الكريم ) ( ).
ذكر الإمام القرطبي - رحمه الله -:
( أن أعرابياً قدم المدينة فقال : مَنْ يقرئني مما أُنْزِلَ على محمد ؟ فأقرأه رجل سورة براءة حتى أتى على الآية الكريمة :{وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ } (3) سورة التوبة. فقرأها عليه بالجر {وَرَسُولِهِ} - أي بالكسرة تحت اللام - ، فقال الأعرابي : وأنا أيضاً أبرأ من رسوله ، فاستعظم الناس الأمر. وبلغ ذلك عمر فدعاه، فقال: يا أعرابي! أتبرأ من رسول الله ؟! فقال: يا أمير المؤمنين ! قدمت المدينة فأقرأني رجل سورة براءة ، فقلت : إن يكن الله برئ من رسوله فأنا أبرأ منه . فقال عمر : ما هكذا الآية يا أعرابي ! . قال : فكيف يا أمير المؤمنين ؟ فقرأها عمر عليه بالضم {وَرَسُولُهُ }. فقال الأعرابي : وأنا أبرأ مما برئ اللهُ ورسولُه منه. فأمر عمر ألا يُقْرِئُ الناس إلا عالمٌ بلغة العرب )( ) .
كيف يفهم المسلم كتاب ربه ، ويتدبره وهو لا يعرف قواعد اللغة العربية ، ولا يميز بين الاسم والفعل والحرف، ولا الفاعل من المفعول ، وغيرها مما يتوقف عليه فهم الخطاب، فمثلاً كيف يفهم قوله تعالى : {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} (124) سورة البقرة. أو قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} (28) سورة فاطر
رابعاً : عدم التخلي عن موانع الفهم
( وموانع الفهم كثيرة منها :
1- أن يكون الهم منصرفاً إلى تحقيق الحروف بإخراجها من مخارجها ، وعدم التفكر في معاني كلام الله – عز وجل - ، بحيث يحرص كل الحرص على ترديد الحرف وتكراره وذلك لأن الشيطان يخيل إليه أنه لم يخرج الحرف من مخرجه ، ولم يعطه حقه في النطق.
2- أن يكون المسلم مقلداً لمذهب سمعه بالتقليد وجمد عليه ، وثبت في نفسه التعصب له بمجرد الاتباع للمسموع من غير وصول إليه ببصيرة ومشاهدة ، فهذا إن سمع تفسيراً للآية غير ما سمع ، إذا به يرده من غير تردد: مثل مَنْ عرف أن تفسير قولـه تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (5) سورة طـه. أن معنى: {اسْتَوَى} استولى . واستقر ذلك في نفسه حتى صار عقيدة راسخة له ، فإذا به لو عرف بعد ذلك أن معنى: {اسْتَوَى} ليس استولى وأنه خلاف الحق والصواب الذي عليه جمهور السلف الصالح ، وأن معناها الحقيقي: استقر وعلا وارتفع، فإذ به يرد هذا المعنى الحق ، ولا يقبله ، وأحياناً يعادي ويبغض من يدعو إليه .
3- أن يكون المسلم مُصِّراً على ذنب، أو متصفاً بكبر، أو مبتلى - في الجملة - بهوى في الدنيا، فإن ذلك يسبب ظلمة القلب وصدئه، وقد شرط الله الإنابة في الفهم والتذكير، فقال تعالى : {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ} (
سورة ق. وقال عز وجل: {وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَن يُنِيبُ} (13) سورة غافر. وقال تعالى: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ} (19) سورة الرعد. فالذي آثر غرور الدنيا على نعيم الآخرة فليس من ذوي الألباب؛ ولذلك لا تنكشف له أسرار الكتاب)( ).
خامساً : هجر كتب التفسير
قال الإمام ابن جرير الطبري - رحمه الله - : (إني لأعجب ممن قرأ القرآن ولم يعلم تأويله - تفسيره - كيف يلتذ بقراءته) ( ).
كيف يتدبر القرآن من هجر كتب تفسير القرآن ولم يطالعها ويدارسها ، ولم يعرف أسباب النزول … وغيرها من علوم القرآن، وغالباً لا يسلم صاحب هذا المنهج من الخطأ في فهم الآيات ، والاستدلال بها ، والخطأ في العمل والتطبيق .
عن أسلم أبي عمران التجيبي قال: (كنا بمدينة الروم ، فأخرجوا إلينا صفاً عظيماً من الروم، فخرج إليهم من المسلمين مثلهم أو أكثر ، وعلى أهل مصر عقبة بن عامر، وعلى الجماعة فُضَالة بن عُبيد، فحمل رجل من المسلمين على صف الروم ، حتى دخل عليهم فصاح الناس، وقالوا : سبحان الله ! يلقي بيديه إلى التهلكة ! فقام أبوأيوب الأنصاري فقال: (يا أيها الناس إنكم لتأولون هذه الآية هذا التأويل؛ وإنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار، لما أعز الله الإسلام، وكثر ناصروه، فقال بعضنا لبعض سراً دون رسول الله : إن أموالنا قد ضاعت، وإن الله قد أعز الإسلام، وكثر ناصروه، فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها ، فأنزل الله – تبارك وتعالى – على نبيه يرد علينا ما قلنا: {وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (195) سورة البقرة. فكانت التهلكة الإقامة على الأموال، وإصلاحها، وتَرْكنا الغزو، فما زال أبوأيوب شاخصاً في سبيل الله حتى دُفِنَ بأرض الروم )( ) .
فتأمل - أخي الحبيب - كيف تأول بعض التابعين الآية على غير مراد الله، وهم من أفضل القرون، وأقرب إلى عصر التنزيل، فكيف بنا في هذا الزمان وقد صارت الألسن أقرب إلى لسان العجم منها إلى لسان العرب ؛ فما أحوجنا - نحن المسلمين - إلى دراسة كتب التفسير ليحصل لنا فهم كلام الله - عز وجل - وبخاصة ما يسمى (التفسير بالمأثور) ومن أشهر هذه الكتب: تفسير الإمام الطبري، وتفسير الإمام البغوي، وتفسير الإمام ابن كثير ، وتفسير الدر المنثور للسيوطي، وتفسير الإمام الشوكاني ...
وإليك نماذج من كتاب الله - جل وعلا - يوهم ظاهرها التعارض، وبالرجوع إلى كتب التفسير يزول هذا الإشكال، ويُدْفَعُ هذا الإيهام والتعارض وصدق الله إذ يقول: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا} (82) سورة النساء ( ).
النموذج الأول : الهداية هدايتان :
قال الله - تعالى - عن وصف رسوله :{وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (52) سورة الشورى. وقال في موضع آخر : {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (56) سورة القصص . في الآية الأولى أثبت الله لرسوله الهداية ، وفي الآية الثانية نفى عنه ذلك ، فكيف نوفق بينهما ؟
بالرجوع إلى كتب التفسير يتبين لنا أن الهداية هدايتان :
أ- هداية الدلالة والإرشاد : وهذه هي المثبتة في حق النبي فهو يهدي : أي يدل ويرشد ويبين الصراط المستقيم ، والطرق الموصلة إليه ، وكذلك القرآن الكريم ، فقد قال - تعالى - :{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} (9) سورة الإسراء.
ب- هداية التوفيق والسداد : وهذه هي المنفية عن النبي وعن غيره فهي خاصة بالله – عز وجل – فهو وحده الذي يوفق ويسدد من يستحق إلى الهداية والصلاح .
النموذج الثاني : أين الله ؟
قال تعالى : {أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء } (16) سورة الملك.{وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ } (84) سورة الزخرف. ويقول {وَهُوَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} (3) سورة الأنعام. في الآية الأولى ذكر الله عن نفسه أنه في السماء ، وفي الآيتين الثانية والثالثة ربما يفهم البعض منهما أن الله في السماء والأرض ، ومن ثم في كل مكان !